*النجوم والكواكب*
مرّ معنا أنّ الذي ينظر إلى النجوم في السماء يظنّها لأوّل وهلة أنّا مبعثرة في الفضاء بصورة عشوائيّة .. فلا يرى في السماء بناء ولا يلاحظ فيها أنظمة ، وذلك لعظمة سعتها ، وكثرة نجومها ، وتباعد مسافاتها .
لكنّ الله تعالى يبيّن لنا في القرآن الكريم أنّه خلق السماء وبناها على موازين وحسابات دقيقة .
(( وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ )) :الرحمن:7
فكل نجم فيها وكل جرم يتحرك ضمن نظام وتقدير محكم ، بحيث لا يقع الخلل أو التصدع والفطور فيها .
(( أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ )) :ق:6
وبناءً على ذلك ... فإنّ الناس يستطيعون أن يتخذوا من النجوم علامات يهتدون بها في أسفارهم في البر والبحر .
(( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )) :الأنعام:97
أمّا انفطار السماء وتصدعها ، وطمس النجوم وانكدارها ، وتناثر الكواكب وتفتّتها ، واختلاف هذا النظام الرهيب ، فهو من أهوال يوم القيامة ... يوم يعيش الناس على الأرض وقد كفروا بربّهم ، وأعرضوا عن دينه وشريعته إعراضاً كاملاً ، وعاثوا في الأرض فساداً ، ولم يبق فيهم من يعرف الله أو يعبده أو يذكره ، كما ورد في الحديث الشريف :
((لا تقوم الساعة حتّى لا يقال في الأرض الله الله)) ... ( مُسلم)
فيومها يبدّل الله عزّ وجلَ على الناس نعمه ، ويغيّر نواميس هذا الكون ، فتتصدّع السماء ، ويتبدّل النظام ، ويقيم الله عزّ وجلَ القيامة ، ويبعث الناس للحساب .
(( إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ{1} وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ{2} وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ{3} وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ{4} عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ{5} )) :الانفطار
أمّا الآن ... فإنّ السماء بنجومها وكواكبها وزينتها ونظامها ، صفحة من صفحات الكون الناطقة بعظمة الخالق سبحانه وتعالى .
فماذا يقول العلماء عن نجوم السماء وكواكبها ؟! .
النجم : هو كرة ضخمة من الغازات الملتهبة ، لذا فهو يشعّ نوراً وحرارة ، وهو يدور حول نفسه وحول مركز المجرّة .
أمّا الكواكب : فهو كرة عاتمة تدور حول نفسها وحول أقرب النجوم إليها ، وتتلقّى الحرارة والضوء من هذا النجم القريب .. ويكون سطح الكوكب صلباً أو سائلاً أو غازيّاً ، والكواكب التي تدور حول شمسنا هي الزهرة وعطارد والأرض والمريخ والمشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتو .
وهذا الاصطلاح الذي وضعه العلماء بتسمية الجرم الملتهب بنفسه والمنير من ذاته نجماً ، وتسمية الجرم المنير بانعكاس ضوء غيره عليه كوكباً ، هذا الاصطلاح وضع مؤخراً ، والناس القدامى كانوا يسمون النجم كوكباً والكوكب نجماً .
لكن من عجيب الأمر أن نجد في القرآن الكريم تفريقاً بين النجم كما يصفه القرآن ؛ والكوكب كما يصفه القرآن أيضاً ، وهذا التفريق موافق لما قاله العلماء اليوم واصطلحوا عليه .
قال الله تعالى :
(( وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ{1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ{2} النَّجْمُ الثَّاقِبُ{3} )) :الطارق
فوصف القرآن النجم هنا بأنّه ثاقب ... ويتوضّح معنى كلمة (ثاقب) من خلال وصف القرآن للشهاب أيضاً بها .
قال تعالى :
(( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ )) :الصافات:10
وذكر القرطبيّ : (( قال زيد بن أسلم في الثاقب : إنّه المستوقد .. من قولهم : أثقب زندك أي استوقد نارك )) .
وجاء في مختار الصّحاح : ثقبت النار : اتّقدت .
ونحن نرى الشهاب يحترق ويلتهب ويتوقّد ويثقب الظلام بنوره ... والنجم الثاقب لا بد أن يحترق ويلتهب ويتوقّد ويثقب الظلام بنوره كهذا الشهاب الثاقب .. فيشتركان بصفة الثقابة أي الاحتراق والتّوقّد ... فهذه إشارة تفهم من القرآن عن طبيعة النجم ، فماذا جاء في القرآن الكريم عن وصف الكوكب .. قال الله تعالى :
(( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ )) :النور:35
المعنى الشرعي للآية حسبما ذكره ابن كثير :
((الله منوّر السماوات والأرض ..مثل نوره الذي يخلقه في قلب المؤمن كمشكاة وهي القنديل ، فيها مصباح أي سراج وهو الفتيلة التي تضيء ؛ والسراج ضمن زجاجة ، والزجاجة كأنّها كوكب درّيّ يتلألأ بسبب سقوط النور عليها .. وقوله : يوقد من شجرة ؛ أي القنديل يوقد من زيت شجرة زيتونة)) .
إذاً فالزجاجة بسبب ما يسقط عليها من نور الفتيلة أو السراج الذي يشتعل ، وبسبب ما ينعكس عليها من هذا النور تصير مشابهة للكوكب الدريّ المتلألئ ، فالزجاجة شبّهت هنا بالكوكب .
إذاً فالكوكب أيضاً يتلألأ بما يسقط عليه من نور غيره ..أي من نور السراج الوهّاج الذي شبّهت الشمس به :
(( وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً )) :نوح:16
(( وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً )) :النبأ:13
فالزجاجة والكوكب يستقبلان النور من السراج ويعكسانه .
فالنجم إذاً ملتهب ومتّقد من نفسه وهو سراج وهّاج يشعّ نوراً وحرارة ، أمّا الكوكب فهو كالزجاجة العاكسة لضوء السراج ؛ فنوره إنّما هو من سقوط ضوء السراج (الشمس) عليه ... فتشبيه الزجاجة بالكوكب تشبيه دقيق .
ويتأكّد الفرق بين النجم والكوكب بهذا المعنى عندما تتحدّث الآيات القرآنيّة عن نهاية هذا الكون ؛ فتذكر نهايتين مختلفتين للنجوم والكواكب .. قال الله تعالى :
(( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ )) :المرسلات:8
وقال جلّ جلاله :
(( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ{1} وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ{2} )) :التكوير
قال القرطبيّ : فإذا النجوم طمست : أي ذهب ضوؤها ومحي نورها .. ونقل عن ابن عبّاس في قوله تعالى : وإذا النجوم انكدرت : تغيّرت فلم يبق لها ضوء لزوالها عن أماكنها .
إذن : فبالنسبة للنجوم فإن نهايتها بطمس ضوئها ... أمّا الكواكب فقد ذكر الله عزّ وجلّ لها نهاية أخرى : قال تعالى :
(( وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ )) :الانفطار:2
فأشارت الآية إلى نهاية أخرى للكواكب مختلفة عن نهاية النجوم .. فهي تتناثر عند نهايتها يوم القيامة ؛ ولذلك فالقمر عندها سينشق ويتناثر
(( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ )) :القمر:1
يقول الشيخ عبد المجيد في إحدى محاضراته : ((علماء الفلك الآن شاهدوا نهاية بعض الكواكب ، وشاهدوا نهاية بعض النجوم ، فوجدوا النجوم تنتهي بأن تطمس ويذهب ضوؤها وتتحوّل إلى كتل سوداء لا ضوء لها ، وأمّا الكواكب فتتناثر وتتمزّق إلى أشلاء ... فالله عزّ وجلَ جعل لنا أمثلة تشاهد في السماء الآن)) .
وبالنسبة لقوله تعالى :
(( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ{6} وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ{7} )) :الصافات
وقوله تعالى :
(( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ )) :الملك:5
فإنّ الرجم يكون بشهاب ربّما يفصل من النجم أو من الكوكب لا بعين النجم أو الكوكب كما ذكر المفسّرون ؛ لأنّه لا يرمى بالكوكب ولا تزول عن أمكنتها ـ (عن ابن كثير والجلالين) ـ .
وأمّا كيف تؤخذ الشهب من النجوم أو من الكواكب لرجم الشياطين ، فهذا أمر لا نستطيع أن نفسّره بأنّ كل ملايين الشهب هذه التي في الفضاء والتي تخترق الغلاف الجوي كل يوم وتحترق هي المقصودة في هذه الآيات ... فالله أعلم بحقيقة الأمر .
وما تهم الإشارة إليه ، هو أنّه يستبعد أن يكون مثل هذا التوافق بين المعاني التي يمكن فهمها من الآيات القرآنيّة وبين ما عرفه العلم اليوم عن موضوع هذه الآيات قد ورد في القرآن مصادفة .
إنّ الاحتمال الأصح والأكبر أن يكون هذا مقصوداً في القرآن كمعجزة من جملة معجزاته ، سيما وأنّ الله عزّ وجلّ يقول :
(( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )) :فصلت:53
أي سنريهم دلائل قدرتنا في الآفاق وفي أنفسهم فيوافق ما يكتشفونه كلامنا عنه في القرآن ؛ فيعلمون أنّ هذا القرآن من عند الله .. والله تعالى أعلم .