وهي مجموعة قصص من حياة سيدنا موسى عليه السلام وصبره على اليهود ... وطبعا من اكثر القصص تكرار في القرآن تكاد لا تخلو منها سورة ...... وفيها يحكي لنا الله عز وجل مدى قساوة وعناد اليهود وقتلهم للانبياء وتعذيبهم لسيدنا موسى عليه السلام مع انه اراد لهم الجنة والخير ولكنهم لم يختاروا الا عبادة الاوثان واختاروا المكانة الوضيعة في الدنيا ....
نبدأ مع ولادة سيدنا موسى عليه السلام
تمادى فرعون في غيه وعلا في الارض وأنزل الخسف بطائفة من رعاياه هم بنو اسرائيل ، اذ عاشوا في ظلاله عيشة البلاء واصطبروا على الشدة وبينما هم يضطربون ويرزحون في نكد من العيش وسوء الحال اذ تقدم الكاهن من فرعون وقال له .
يولد مولود في بني اسرائيل ، يذهب ملكك على يده ، فثارت ثورته ، وتحير في بهتانه وأمعن في غيه فذبح أبناءهم واستبقى نسائهم ، ولكن قدرة الله تعالى تسامت أن يقف أمامها تدبير خائب ، فقدر في قديم أزله لهؤلاء المستضعفين أن يرثوا ملك هذا الطاغية الجبار على يد طفل يربى في بيته ، ولكنه كالورد ينبت من ثنايا الشوك ، وكالفجر من مهد الظلام ..
مكن الله بني إسرائيل ، وأورثهم أرض مصر والشام وأرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون .
جلست يوكابد ( أم موسى ) في ركن من منزلها ، وقد جاءها المخاض ، فدعت قابلة لتهيئ لها مثل ما يكون في هذه الحال ، فعالجتها ، فلما وقع موسى على الارض ، اضطربت نفسها ، ولكن حبه تغلغل في قلبها فحرصت على حياته ، وجدت في البقيا عليه ، فلم يتسرب خبره الى فرعون عدو الاطفال ، واستمر ثلاثة من الشهور كذلك ، حتى اذا نشر الملك عيونه في المدينة يتفحصون الاطفال ألهم الله أم موسى أن تهيئ له صندوقا تضعه فيه ، ثم تلقي به في النيل ، وترسل على الشاطئ اخته تقص أثره ، وتلم بخبره بعد أن ثبت فؤادها ، وهدأ روعها بقول كريم ..
سارت أخت موسى تقص أثره ، وما كان أشد هلعها حينما حمل الصندوق الى فرعون ، ولكن رحمة الله قريبة منه ، فلم تكد تنظره امرأة فرعون حتى ألقى الله محبته في قلبها ؛ فطلبت الى زوجها أن يكون ابنا لها وله ، وقد اصبح قلبُ يوكابد أم موسى فارغا من الهم والاشفاق على وليدها ، لانها استودعته الله ، وهي رابطة الجأش ، ثابتة الايمان .
وسبقت اليه المراضع ، لعله يقبل على واحدة منهن ، فيروي غلته ، ويشبع جوعته ، ولكنه عاف المراضع ، فانبرى هامان ، وقال : إن هذه الفتاة تعرفه ، فخذوها حتى تخبر بحاله ، ولما سئلت الفتاة قالت : إنما أردت أن أكون للملك من الناصحين ، فأمرها فرعون أن تأتي بمن يكفله ، واقبل يحمل الطفل باكيا وهو يعلله حتى أقبلت امرأن ، فاستأنس بها الوليد ، والتقم ثديها من دون النساء جميعا .
فدهش فرعون وقال لها : من أنت ؟ فقد أبى كل ثدي إلا ثديك ؟!
فقالت أم موسى : اني امرأة طيبة الريح ، طيبة اللبن ، لا أوتي بصبي إلا قبلني ، فدفعه اليها واجرى عليها رزقا ، فرجعت الى بيتها ..... وهكذا كافأها الله فقرت عينها به لتعلم أن وعد الله حق ...
خروج سيدنا موسى من مصر
أتمت يو كابد رضاع ابنها موسى ، ثم اسلمته الى القصر الفرعوني ليكون لهم عدوا وحزنا .
ولما بلغ أشده واستوى ، أوحي الله اليه بالنبوة ، وآتاه العلم والحكمة .
اتجهت أنظار المستضعفين المغلوبين الى موسى ، ليحميهم مما اثقل كاهلهم من االظلم والآلام ، وهؤلاء قومه ، وهو ذو النفس الكريمة التي أشربت عزة الله ، واستنارت بنوره .
عاهد موسى نفسه على ان يكون لهؤلاء المظلومين نصيرا ، وفيما هو يتجه نحو العاصمة الفرعونية ، اذ وجد رجلين يقتتلان احدهما عبري من مشايعيه ، والآخر فرعوني من أصحاب القوة والسلطان ، فسأله مظاهره أن يحول بينه وبين اعتداء الفرعوني ، فهم موسى فضرب الفرعوني فكانت القاضية ، ثم ندم على فعلته ، وعدها من عمل الشيطان واستغفر ربه على ما فرط منه، فغفر له ربه انه غفور رحيم .
ولقد كان الغفران نعمة على موسى ، وحافزا لرحمته ، وداعيا لسلامه ، فاستعاذ بالله أن يكون ظهيرا للمجرمين ،،،،، ولكن موسى تغلبت عليه بشريته وانتصرت على حواسه طبيعة الانسان ، فلم يعلق ارادته بارادة مدبر امره ومصرف الكائنات ، ولم يستثن مشيئة الله ، فوقع فيما عزم على النجاة من غوائله ، اذ اصبح في المدينة خائفا يترقب ، فاذا بالرجل الذي استنصره بالامس يستصرخه اليوم ،،،،،
فرماه موسى بالغواية والضلال ولكنه اندفع الى مظاهراته ، فظن أن موسى يقصد قتله فتقدم اليه مسترحما قائلا : (يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين -- 19)سورة القصص.
فلم يكد يسمع الفرعوني هذا الاتهام الصريح ...... وقد كان قومه في حيرة في امر قتيل الامس ، يعرفون قاتله - حتى وافاهم وأخبرهم بخبر موسى ،،،، فتألب القوم يبحثون عن موسى ليمزقوه شر ممزق ، ولكن رحمة الله قريبةً منه .......
اذ جاء من أقصى المدينة رجل يسعى ،، نحو موسى ،،،
يا موسى يا موسى أن الملاء يأتمرون بك ليقتلوك ، ثم نصحه بالخروج من المدينة الى حيث يشاء رب العالمين .....
سيدنا موسى ينزل أرض مدين
خرج موسى من المدينة خائفا يترقب ، متجها الى أن يصرف عنه كيد الظالمين ... سار ثماني ليال قاصدا بلاد مدين ولا معين له الى عناية الله رب السموات والارض .... ولا رفيق يؤنسه إلا نور الله من حوله ،،،،، ولا زاد يحمله إلا زاد التقوى ،،،،، مشى حافيا حتى تساقطت جلود قدميه ،،،، جائعا تتراءى خضرة البقل من بطنه هزالا .... ولم يكن له عن كل ذلك إلا عزاء واحد ،،،، هو غنيمته بالبعد عن فرعون وقومه ..... ونجاته بعيدا عن الرقباء والكائدين ......
توجه الى مدين ، فوجد حشدا من الناس قد تزاحموا على مورد للماء .... كل منهم يعتمد على قدرته في التقدم والمسابقة الى البئر ، ورأى من دونهم امرأتين تفصلان أغنامهم حتى لا تختلط بأغنام غيرهما في ضعف وذلة ،،، إلى أن ينكشف هذا الحشد ،،،، وينصرف الجمع ،،،، فتتقدما للسقيا ....
ثارت في نفس نبي الله ثورة النصفة ,,, وحماية المستضعفين ، فتقدم وسالهما :
ما خطبكما ؟
قالتا:
لا نسقى حتى ينصرف الرعاة ... حذرا من مزاحمة الرجال ،،،، وقد جئنا نسقي اضطرارا ،،،، لأن أبانا شيخ كبير لا ينهض ، فما تأخر موسى عليه السلام عن نجد الضعيفتين ،،، بل سقى أغنامهما ، وتولى إلى الظل ،،، ثم انطلق لسانه يسترحم رب السموات ،، ويستدر العطف ,,, لانه فقير محتاج ......
بكرت الفتاتان بالرجعى إلى ابيهما الشيخ على غير عادة ، فسألهما الخبر ، فأخبرتاه ،،، وقد استجاب الله استرحام موسى ،،،، فحنا عليه ، اذ ألهم الشيخ أن يرسل أن يرسل في طلبه إحدى ابنتيه ، فجاءته الفتاة مستحية متخفرة ...
فقالت :
( إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) سورة القصص
تبع موسى الفتاة الى بيت ابيها استجابة للدعوة .... ومن حياء الانبياء وأدبهم أدب سيدنا موسى عليه السلام مع الفتاة... فقد طلب منها ان تسير خلفه وتشير له بالطريق يمنة ويسرة .. حتى لا يقع بصره على الفتاة وهي تسير أمامه ..
فنزل صدرا رحبا ،،، وآنس حرما آمنا ،،،، ثم قص عليه قصصه ،، وأفضى إليه بمكنون سره ، فطمأنه الشيخ وقال :
(لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) سورة القصص
__________________
يدنا موسى يصاهر الشيخ ثم يعود الى وطنه
هدأت نفس موسى في منزل الشيخ الكبير ، وسكنت الى صحبته ، ولا بدع فنور الايمان يتلألأ من كلا القلبين ،،،، وفيض الإخلاص يتفجر من كلا الرجلين ،،، وشبيه الشيء منجذب اليه ....
ولقد كان موسى كريما فتيا ،، أثار في نفس الشيخ وبنتيه عوامل الإكبار والإعجاب ،،،، لما زانه الله به من طبع قويم ،،، وخلق كريم ،،،، فتحرك في نفس الفتاة حب الاستظهار بموسى وقوته ،،، والإبقاء عليه لطهارته وأمانته ،،،
فقالت :
( يا أبت استئجره إن خير من استئجرت القوي الامين ) سورة القصص
او ليس هو الذي أقل الغطاء عن البئر منفردا مع صعوبة حمله ،،، على ما كان به من تعب وهزال ؟؟
او ليس هو العف الطاهر الذيل الذي أطرق برأسه حينما بلغته رسالة ابيها واستدعته إليه ؟؟
فسار أمامها وسارت خلفه ، وفاء لحقوق الطهارة وذمام المكرمات ،، وحتى لا تمتد عينه إليها فيكون من الخائنين .....
مر حديث الفتاة إلى أذن ابيها ، فلم ينبه غافلا ، ولم يحرك ساكنا ،، بل كان صدى يرجع ما كان يجيش في صدر الشيخ من أمل ورجاء ،،،،،، اما وقد مزق التماس الفتاة حجاب السكوت ،، فقد استقر أبوها في مجلسه ،، ثم انبرى يقول :
يا موسى ، اني لراغب في أن أزوجك إحدى ابنتي هاتين على أن تكونا عونا لي وظهيرا أجيرا ترعى الغنم ،، وتقوم بنصرتي ومساعدتي ثماني حجج (اي سنين) وإن زدتها اثنين فتلك منةُ جليلة ... أرجوها منك ... ولا احتمها عليك ..
وسأكون لك إن شاء الله من الأوفياء المخلصين ......
ولقد كان موسى شريدا في بلاد مدين ،،، ووحيدا طريدا نائبا عن الأهل ،، قصيا عن الأخلاء ،، مستوحشه نفسه ، فلم يكد يسمع دعوة الشيخ حتى سرى أمل الحياة في نفسه مسرى الماء في العود ،،، وانطلق لسانه يقول للشيخ :
إني لسعيد بصحبتك أيها السيد الكريم ،، قوي بمناصرتك ،، عزيز بمؤازرتك ...
طاب مقام موسى ،، واخضر في حياته عود الأمل : فأتم أقصى الأجلين ،، يكلأ أمور الشيخ ،،، ويدبر شؤونه برعاية الأمين المناصح الحكيم ،،، وتم الزواج بإحدى الفتاتين ...
ثم وهب له صهره الكريم أغناما له خالصة سائغة ،، وبعد ذلك تحركت في صدره نشوة الحنين إلى الوطن ،،، ونزعت نفسه إليه ،، ولج به الشوق والهيام ..
بلاد ألفناهـــــــا على كل حالــــة وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
وتستعذب الأرض التي لا هوى بها ولا ماؤها عـــــــذب ولكنهــا وطــن
جمع موسى أشتات متاعه ، وهيأ رحله ، واستعد ليذهب مع زوجه إلى مصر ،، فودعا الشيخ وداعا حسنا ، ودعا لهما بالتوفيق والسداد ،،، ثم سارا نحو الجنوب ،، حتى طور سيناء ... وهناك ضل موسى الطريق فحار في أمره ،، والتوى عليه قصده ,,,,,, ولكن عناية الله لاحظته ،،،، فلم يخب ضياؤه ...... ولم ينطفيء رجاؤه .....
_________
الـــــــــــــوادي
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
سار موسى غير بعيد ، فأبصر من الجهة التي تلي الطور نارا ، فحط رحاله وأسرع وحده إلى النار بعد أن قال لأهله :
( امكثوا إني ءانست نارا لعلي ءاتيكم بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ) القصص .
**وهي من سمة المسافرين برا ... اذا رأو نارا من بعيد هي اشارة لهم بأن هناك مسافرين أو قرية قريبة .. او هناك من يسكن البر والوادي ... يستعينون بهم للسؤال عن الطريق اذا اضاعوه او لطلب المساعده في الاكل والمشرب وما غيره ...
في شاطيء الوادي الأيمن ، في البقعة المباركة من الشجرة في تلك الليلة المسفرة الضاحكة ، بسم الزمان لنبي الله الكريم ، فنودي عليه ..
( أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ) القصص
فكانت بدء نبوته ,,,,,, اذ خصه الله بكرامته ، وبعثه برسالته ، وهناك سمع نداء ربه الله الكريم ....
( وما تلك بيمينك يا موسى ) سورة طه
فعجزت قدرته البشرية أن تسمو إلى سر الإبداع في السؤال الكريم ، وحكمته ،،، فأجاب كما يجيب غيره من الناس ...
( هي عصاي أتوكؤا عليها واهش بها على غنمي ولي فيها مأرب أخرى ) سورة طه
ظنا منه أن المقصود أن يذكر خصائص العصا ،، ومنافعها ....... تسامت قدرة الله وتعالي سبحانه علوا كبيرا ،،، فلم يكن السؤال إلا تمهيدا لتبيان ومقدمة لإعلان !
سأل الله عن حقيقة العصا ، حتى إذا رأى موسى بعد ذلك فيها خوارق ، واستبان عندها معجزات ، على أن في ذلك آيات بينات ، وحججا صادقات ، خصه بها رب السموات ، تمييزا لرسالته وتقوية لدعوته ،،
فكم طابت به للحق نفس بحبل الله تعتصم اعتصاما ...
أمر موسى أن يلقي عصاه فألقاها ، فإذا هي حية تسعى ،،، نمت وعظمت حتى غدت في جلادة الثعبان ، وضخامة الجان ،،، لمحها موسى فخاف وهرب ....
فسمع نداء العلي العظيم يقول له :
( لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون ) سورة النمل
حقت ، نبوة موسى واطمأنت نفسه لنداء الله الكريم ،، وقرت عينه بنور الحق الواضح ، فتوجه ربه بمعجزة أخرى ،،، إذ أمره فأدخل يده في جيبه ، فإذا هي بيضاء ،، من غير سوء .....
كانت هاتان المعجزتان لموسى نبي الله الكريم أمرا له ما بعده ،، جعلها الله تثبيتا لقلبه ،، وتمكينا لرسالته بين فرعون وقومه ،،، وتهيئة للمناداة بالحق ،، فرفع صوته عاليا ،، وشهر سيفه قاطعا ،،،، ليمزق به حجب الزيغ والضلال .
الحكمة الربانيه حسب تفسير العلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي .. رحمه الله .
يفسر قائلا ... عندما ساله الله عن العصاة ... اجاب موسى عليه السلام هي عصاي اتوكؤا عليها واهش بها على غنمي ولي فيها مأرب اخرى ...
الزيادة هنا في كلمة مأرب أخرى والتي لم يفصح عنها ولكن كانت زيادة في الاجابة وكانت اجابته لعدم قدرته الانسانية في فهم كنه سؤال الله سبحانه ..
ثم امره ان يرمي العصاة فرماها وارتعب مما تحولت ... ثم استزاد عليه بامره بان يدخل يده في جيبه لتخرج بيضاء ... وفعل واستغرب من تحول لون يده ...
يفسر الشيخ ذلك .. بانها الحكمة الربانيه في ان يهيء نبيه لمعجزته كما يفعل مع كل انبياءه وبالذات اولي العزم منهم .. وذلك حتى لا يستغرب ولا يخاف الرسول من معجزته عندما تحدث للمرة الاولى وذلك امام الناس الذين يريد ان يثبت الحجة لهم لما يدعوهم له .. وان يكون واثق كل الثقة بمعجزته وحدوثها ولا يتزعزع موقفه امام الناس فتسقط حجته بخوفه ويتغلب عليه عدوه ...
لذلك عندما تهيأ سيدنا موسى لمعجزته وعظمتها كان قوي الارادة وآمن عندما ظهرت أمام فرعون واعوانه ...
____________
موسى الرســــــــــول
عاش فرعون وأعوانه في بلاد النيل ، يحكمون القبط وبني اسرائيل ، ويفسدون في الأرض ظلما واستكبارا ، ويتخذون من نفوسهم أربابا ، مصورين من طبيعتهم البشرية الناقصة آلهة يفرضون على السوقة عبادتها من دون الله ......... ثم هم بعد قد أنزلوا الخسف ببني اسرائيل ، وساموهم سوء العذاب ، واتعبوهم في العمل ، وأطفؤوا أمامهم سرج الأمل فكانوا تحت أيديهم من سقط المتاع .
وأوغلوا في شهواتهم ، وانصرفوا عن نور الايمان ، وانحسرت نواظرهم
وقوم في الظلالة قد تهاووا اليسوا بالرسالة يرحمونا ؟
إذن فلتفض رحمة الله ،،، ولتتفجر ينابيع عدله وكرمه ،، وليكن ارحم بهؤلاء القساة الجفاة من أنفسهم ، فيهيء لهم مدارج النور ، ويفسح أمامهم طريق الهداية ، وينير مفاوز الظلمات .....
نادى الله موسى : أن لديك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه ، ويعزز الله بهما كلمتك ، ويعلي حجتك ، فاذهب الى هؤلاء حتى تخرجهم من الظلمات الى النور ،،،، وترفع علما يخفق في بلاد النيل ،،،، فينبلج نور الرشاد ويتوارى غلس الضلال ...
سمع موسى دعوة الله ،، وتهيأ لتلبية النداء الكريم ،،، وهو وإن يكن ربط الله بالايمان قلبه ،،، ووثق بالبراهين دعوته .......... فأراه حجتين بهما يتقوى ويشتد ،،،ويساجل،،، ويناضل،،، ويعزز،،، كلمة الله أمام فرعون وقومه - إن يكن له كل ذلك فإن موسى ثأرا قديما لفرعون ،،، فهم يطلبونه أمد .... وهو قد أمعن في الهرب ،،، وفارق الأهل لفرعون ... إنجاء لنفسه .... وطلبا للسلامة من أقرب الابواب ..... وهو كذلك وان جاشت في نفسه نزعة الحنين الى الوطن ،، واختلجت في فؤاده عوامل الشوق والشجن ،،، لا يزال يجد أمام الأمل سدة ،،، فيغض الطرف عن هذا المطلب البعيد المنال ،،، أما وقد دعاه الله وهيأه لرسالته ، فقد آن له أن يتقدم حيث أحجم ،،، وأن تنبعث آماله حرة طليقة بعد أن حبسها وحال دونها الخوف والحرمان .....
فاضت الضراعة من قلب موسى الى ربع فقال :
( رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلونٍ )
قال قولته ليطمئن وليشرف قدره ،،،، ويعظم جاهه ،،،، فينفخه ربه بقول كريم ،، ينير في قلبه مصابيح الرجاء ويفسح أمامه أمامه مسالك الأمل ويثلج خاطره ويهديء روعه ويؤمن نفسه ...
__________
اُمر موسى أن يذهب الى فرعون ، فتهيب الموقف ، واستعظم الأمر وهو الذي لا يكاد يبين هن آيات الهدى ، ودلائل الحق ، لانها فياضة زاخرة ، تمتليء بها مشاعره ، وتجيش بها خواطره ، وتملك عليه عقله وقلبه ، وهو لا يملك أن يكون قوي التعبير.... رصيص الحجة ....مفوه المنطق.... سري البيان .... لانه شأنه خطير ..... وأمره أمر كبير ...... فدعا ربه فقال :
" رب اشرح لي صدري " حتى ينفسح لتحمل أعباء هذا الامر العظيم ، " ويسر لي أمري " برفع الموانع والصعاب ، " واحلل عقدة من لساني " أكن ناصع البيان ، سديد البرهان ، حتى ينفذ بلاغي الى نفوسهم ، ويتسرب الى قلوبهم ، واجعل لي شريكا وزيرا من اهلي ، هو هارون أخي ، أشدد به أزري ، واشركه في أمري .
أجاب الله نبيه الكريم ،، تدعيما للدعو وتكريما لرسوله ، وتنبيها لشأن الحق ، فألهم هارون - وقد كان بمصر - أن يذهب الى حيث يقيم موسى أخوه ، ليشركه في أمره ، ويحمل معه أعباء هذا الامر الخطير ، فلبى هارون داعي الحق ، وسار فقابل أخاه بجانب الطور الأيمن ..
إذن فقد اطمأن موسى عليه السلام ,,,,,,, وتقوى ظهره ,,,,, وآتاه الله سؤله ....
أوحى الله الى موسى واخيه : أن اذهبا الى فرعون ، فقولا له قولا لينا أرفق بنفسه ، وآلف لقلبه ، عسى أن تلين قسوته ، وتخشع سطوته ، فلا تحمله حماقته على أن يسطو عليكما ، ولتسدا أمامه منافذ التمحل والاعتذار ، وعسى أن تكون دعوتكما لينة رقيقة ، فلا تفجعه في سلطته ،، ولا تصدمه في عزته ......
ومن أولى من رب السماء والأرض بأ، يعلم الأدب ، ورقة العبارة ،، وسمو الحس ،،، وحسن المعاملة ؟؟؟ ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله وعمل صالحا ؟؟؟ ...
اليست لفرعون على موسى حقوق التربية ؟ فمن حقه عليه ملاينته في القول ورقة الاسلوب ...
يا موسى : اهب انت واخوك بآياتي الى فرعون وقومه ، وتدرجا معه في الدعوة ، فقولا : إنا رسولا ربك ، وادعواه ليخلص بني اسرائيل مما هم فيه من ظلم وإيلام ......
ذهب موسى واخوه الى مصر فأتيا فرعون ، فاستهان بهما ، واستنكر خطبهما ، فقال : حتى انت يا موسى .....
( الم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ) ... سورة الشعراء
فقال موسى : أتمن بتربيتي لديك وليدا فتحسبها نعمة ؟ اليس منشؤها ظلمك واستعبادك لبني اسرائيل ؟
فانطلق فرعون قائلا . وكذلك فعلت فعلتك التي فعلت وانت من الجاحدين بنعمتنا ودحض موسى حجته ، ورد دعوته ، فقال بل فعلتها إذا وانا من الضالين .......... ولما خفت بطشكم فررت منكم ، فأصابتني نعمة الله ورحمته ، فوهب لي علما وحكمة ، وجعلني من المرسلين ......
حينئذ استغلق باب النقاش أمام فرعون ، فعمد إلى طريق آخر ، واهما أن به نصفته وفيه سلامته ،
فقال : وما رب العالمين ؟
فقال موسى : إن ايقنت حقيقة الاشياء وأدركت وجودها وآثارها ، فإلهي ربها ، رب السماوات والأرض وما بينهما .
فتميز فرعون غيظا ، وراح يثير سخيمة ، ويبعث دهشتهم وعجبهم واستنكارهم ، فقال ألا تسمعون ؟! أسأله عن حقيقة ربه فيذكر لي أفعاله !!
فقال موسى : ربي ربكم ورب آبائكم الأولين .....
(رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ) سورة الشعراء
فثار فرعون واضطربت نفسه ,,,, ولج في غضبه ، وزاد غيظه ، وعجزت حجته فلجأ الى حيلة المحنق الموتور ، وعمد الى قوته ، وقال ....
( لئن اتخذت إلاها غيري لأجعلك من المسجونين ) سورة الشعراء
لم يبال موسى ، واطمأن لدعوته ، وانبعث لسانه بدفء الامل فقال :
( أولو جئتك بشيء مبين )
حجة دامغة ، ومعجزة قاطعة ،،، تزيل عنك الريب والشكوك .؟
فقال فرعون : إذن فأت بها إن كنت من الصادقين
معــــــجزات سيدنا موسى ...
كان موسى قوي الظهر مسدد الخطى يستمد العون والتوفيق من الله العلي الكبير ، وكان السحر فنا ذاع في بني مصر أمره ،،، واشتهر شأنه ،،،، فظهر منهم الساحر الذي يخلب العقول .... ويسترق الفؤاد ، ويلعب بالالباب لعب النكباء بالعود .... برعوا في هذا الفن واتقنوه ،، فليس يباريهم سابق ،،، ولا يبلغ شأوهم لاحق ...
ومن هذه الناحية وحدها شاءت إرادة الله ان يعجز القوم ،، وأن يقفهم دهشين ذاهلين ، إذ تصوب سهامهم الى نحورهم ، فلا يستطيعون ردها ، ولا هم ينظرون ...
تلك حكمة أرادها الله ، فأجرى المعجزة على يد نبيه موسى ، تحاكي ذلك النوع الذي برع فيه القوم ، حتى يفرغوا كل كنانتهم ،،، ويستنفدوا كل جهودهم ،، فإذا عجزوا في محط سبقهم ، وغاية براعتهم فهم عن غيره من الاعمال أعجز ..... وحينئذ فكلمة الله هي العليا ,,,,,,وكلمتهم هي السفلى ،،، والله لا يهدي كيد الخائنين ...
القى موسى عصاه التى أودعها الله القوة الخارقة ،، فإذا هي ثعبان مبين ... شده فرعون ، وتملكه مزيج من الكبرياء والحيرة ،،،، ثم
قال : هل من غيرها ؟ ظانا بأن ذلك نهاية الشوط ... وأن موسى لا بد عاجز ، ولكن الرسول أدخل يده في جيبه ثم نزعها ،، فإذا شعاع ينبعث منها يكاد سنا برقه يأخذ بالابصار ،،،، ويذيع وينتشر حتى ليكاد يسد الأفق ...
بعد ذلك ضاقت مسالك القوم أمام فرعون ،،، وغشيه هم واكتئاب ،،، ولج به حرصه على ملكه وجبروته ،، وبهره سلطان المعجزة ،،، فأنزله من عليائه ،، وصغر شأنه في عين نفسه ،،، فنسى أنه ربهم الأعلى ،، وأنه ما علم لهم من إله غيره !!!! ثم عمد الى التمسح في أذيال قومه ،،، ومداهنتهم ... فأشركهم في الامر ،، وتبادل معهم المشورة والرأي ،،، وتقدم لمؤامرتهم ،،، وتنفيرهم من موسى ،،، ملبسا الباطل ثوب الحق ،،، والخديعة والتدليس ثوب الصراحة والحقيقة ..
فقال : يا قوم ،، هذان ساحران يريدان ان يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ،، فما ترون ؟
فقال انصاره وحواشيه احبسهما وابعث رجالك في المدائن يأتوك بكل ساحر عليم ....
صادف هذا الرأي هوى في نفس فرعون ،، وهو الذي يتعلق بخيوط واهية ،،، ويستمسك بالامل الكاذب ،،، ويستند على اوهن أساس لعل فيه الخلاص والنجاة ...
فجد في جمع السحرة من كل مكان ،،، كل ذلك والهواجس والوساوس تتنازع نفسه ، خوفا على صولته ،، وفرقا على دولته ،، إذ قال لموسى في نكران ودهش :
( أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ) سورة طه
ما بال فرعون اضطرب وجزع ؟! وتقطعت نفسه وهلع ! اليس هو الإله المتجبر ؟! او ليست له قدرة وكرامة ؟! إنه أمام تلك القوة الخارقة التي أجراها رب الارباب على يد بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق !
قال فرعون لموسى :
(فأجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا انت )سورة طه
قال موسى : موعدكم يوم العيد ، يوم اجتماع الناس وزينتهم ، حتى يشيع الحق ، وينبلج النهار
جد فرعون واجتهد وجمع السحرة وأتى بهم في ذلك الزمان وهذا المكان ، تتمشى في نفسه بقية من الامل ، ورغبة شديدة ملحة من الحرص والسطلة ، يدفعانه دفعا الى مساجلة موسى والقضاء على دعواه ، ولكن هيهات أن يدنس الشمس غبار ثائر ،، أو يحط من قدر العدالة سلطان جائر :
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
تلفت موسى فوجد حشدا هائلا من السحرة ،
فقال لهم : الويل لكم ان افتريتم الكذب على الله ، فدعوتم معجزاته سحرا ، ولم تصارحوا فرعون بالنور الساطع ، والحق القاطع ،، فتظهروا له ما بين سحركم وإعجازي ، وتفرقوا بين باطلكم وحقي ، من احتال منكم ليبطل حقا ، أو يحق باطلا فقد خاب ، وباء بالخسران المبين ...
كان كلام موسى نداء الحق رن في آذان الساحرين ، فأقاقهم من غشية الضلال ، وأزال عن أفئدتهم حلك المحال ،،، وفتق أغشية قلوبهم لتصيخ لدعوة الحق ،،، ولتستبين طريق الرشاد ...
ائتمر السحرة بأمر فرعون ، لم يتخلف واحد منهم ،، فإذا بهم آلاف ، مع كل واحد منهم حبل عصا ، مقبلين إقبال رجل واحد ، ومشمرين عن سواعدهم ، ليكون ذلك أدعى الى تسرب الخوف الى موسى واخيه .. وبث المهابة في نفوس الرائين ...
نادى فرعون في قومه ..... حاثا لهم على الاسراع ،،، والبدار ،، ليشهدوا ذلك الحفل العظيم ،،، ساعة الضحى من يوم العيد ،، يوم يتبارى القرنان ويتساجل الخصمان .
جاء الناس مدفوعين بالرجاء في نصرة الساحرين ،، لما رسخ في نفوسهم من الضلالة ، وران على قلوبهم من الجهالة ، فسلبهم سلامة التقدير ، وصحة التصوير ...
أقبل السحرة مدلين بعلمهم ،، مزهوين بغرورهم ، وكيف لا يدلون ويعجبون وهم فوارس الميدان ، وجياد الرهان ،، ومناط الامل ،،، ومحط الرجاء ؟
قالوا لفرعون : ألنا أجر إن غلبنا ؟
فقال : لكم أحر وقربى ! تنعمون في حماي ، وتسعدون بجواري ، وتنزلون موارد الرفاغة والترف والنعيم ، لأنكم تشدون أزري ، وتقوون ظهري ، فاطمأن السحرة لهذا ، ودارت برؤسهم كؤوس الامل ، فأقبلوا مدفوعين ، ثم ....
قالوا : يا موسى ، إما أن تلقي ، وإما أن نكون أول الملقين ...
فلم يبال موسى بسحرهم ، واستخف بخطبهم ، وأذن لهم بأن يلقوا حبالهم وعصيهم ، حتى يستنفدوا أقصى وسعهم ، ويفرغوا غاية جهدهم ، ثم يظهر الله سلطانه ، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه ...
تقدم السحرة وألقوا ما في أيديهم ، فخيل لموسى أنها حيات على الأرض تسعى ، ولكنه وهم تسلل الى خلجات نفسه حذرا وخوفا أن يؤخذ الناس بهذا الظاهر المموه ، الباطل المشوه ، فينصرفوا عن دعوته مدبرين ،، ولكن حماة الله ورعاه ...
فقال : لا تخف إنك انت الأعلى ، ولا تحفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها ، فإن العويدة التي في يدك أخطر شأنا وأعظم اثرا ، فألقاها فإنها بقدرة الله تبتلع ما افتعلوا وزوروا ، وموهوا وضللوا ، فما كل ذاك إلا كيد ساحر ، ولا يفلح الساحر حيث أتى ..
هدأت حصاة موسى ،، وألقى عصاه ، فإذا هي تلقف ما يأفكون ، فإذا السحرة يلمسون الحقيقة الرائعة ، ويتبينون الرشد من الضلال ، والحق من المحال ، فإذا هم يخرون ساجدين ، توبة عما صنعوا ، وخشوعا لهيبة الحق ،، وإكبار لذلك الخطير .
غلت مراجل الحقد والحفيظة في صدر فرعون ، واحتدم غيظه لتلك المفاجأة الغريبة التي فاجأته ، مستطيرة الشرر شديدة الضرر ،، على حين كان يرجو من ورائها تقوية لسلطانه ، وتدعيما لبهتانه ، فإذا هي عاصفة هوجاء تفوق ذلك العرش الذي اسس على الزور والبهتان .
لم يجد فرعون في كنانته إلا أن يشبع نهم غيظه ، ويستر مرارة خجله ، فقال : أتؤمنون له ، وتخضعون لحكمه قبل أن آذن لكم ؟ اليس في ذلك اتفاق مقرر ورأي مدبر ؟
حقا إنه لأستاذكم ، وكبيركم الذي علمكم السحر ، فاتفقتم معه على فعلكم ، أما وقد أقدمتم على ذلك ، وخرجتم على حدود طاعتي ، ونقضتمحبال عهدي فلأقطعن أيديكم وارجلكم من خلاف ، ولأصلبنكم في جذوع النخل ، عقابا لكم ، وتمثيلا بكم ،،، لأنكم كفرتم بنعمتي ونقضتم ميثاقي ، ولتعرفنكم أيام الزمن قوة بأسي ، وشدة عذابي ...
ولكن قوة الايمان وفيض النبوة ربطا على قلوب هؤلاء المؤمنين ، فأزال الله عن قلوبهم غشية الباطل وغمرة البهتان ، ودرجوا قدما نحو الصراط المستقيم ....
فقالوا لفرعون : ليس في سبيلك خير ... ولا رضاك أجر فلن نختارك على ما جاءنا من نور ساطع وحق قاطع ، فأوغل في وعيدك ،،، وأكثر من تهديدك ، فما انت إلا غوي مضل مبين ..
( إنا ءامنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما اكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى .)
__________________
عنــــــــــــــاد فـــــرعون...
شُده فرعون لما رأى من سحر موسى - كما يسميه - وانطلق تتنازعه عاطفتان جامحتان : أقواهما الإبقاء على ملكه ، ومجاهدة موسى حتى تنجلي غاشية ظلامه ، وتنكشف سحابة غمته ، فيستتب لفرعون المصير ، وكيف يناضل عتل جبار في سبيل هذه العزة الشامخة والثروة العريضة ؟ إنه لمضطر تحت نزعات هذه النفس الكافرة أن يدافع ويجالد حتى يدحر ذلك الخارج على سلطانه ، أصر فرعون على عناده ، وظاهره الملأ من قومه فقالوا :
( أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وءالهتك ) سورة الاعراف
فتغالى في بطشه وعنفوانه ، واستطار شروره وبهتانه ، فقال:
إنا سنقتل أبنائهم ونستحي نساءهم ، ثم راح ينزل بهم صنوف الظلم وألوان الأذى ، فضجوا لاجئين إلى موسى ، ليحيمهم من أذى الكافر الجبار ،
وقالوا : يا موسى لقد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا . فسكن الرسول ثورتهم ، وهدأ روعهم ، ومناهم الخير والنجاة قائلا لهم :
( استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) سورة الاعراف
قال موسى هذا واستمر في دعوته يمهد لقومه سبيل النجاة ، ويتجه الى ربه بقلب ثابت ، وإيمان موثق ، واطمئنان موفور .
أما فرعون فقد خلص الى ملأ من قومه يأتمرون بموسى ليقتلوه ، فذلك أقرب طريق أمامهم ، وأدنى السبل لبقاء ملكهم ، بعد أن أعيتهم الحيل ، وسُدت أمامهم منافذ الخلاص ، وبينما هم في أخذ ورد ، يقبلون أوجه الرأي ، ويجيلون الفكر في الإقدام على جريمة القتل ، إذا دفعت المروءة والشجاعة رجلا أنار الله بصيرته ، وكشف له سبيل الرشد والإيمان ، فدافع عن موسى أشد الدفاع ، وناضل عنه وجادل ، وبين لهم سوء أمرهم ، وعاقبة تدبيرهم ، وفند حججهم ، وزيف ضلالهم ، وطفق يضرب المثل ، ويتقوى بالحجج .
فقال يا قوم :
( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ) سورة غافر ...
ثم طفق مؤمن آل فرعون يذكرهم ببأس الله وبطشه وبما فعل بالامم السابقة مثل يوم الأحزاب وقوم نوح وعاد وثمود ومن أتى بعدهم .. وبخوفه عليهم مما سيجري عليهم في يوم القيامة .. ويذكرهم بما جائهم به سيدنا يوسف من قبل من البينات وبما شككو به وبعد ان انتقل سيدنا يوسف بدأوا بالندم وبان الله لن يبعث من بعده رسول لما فعلوا ...
ولكن القوم - على الرغم من قوة عارضته - قاوموه وكذبوه ليلجئوه الى صفهم ورأيهم فقال ...
( ويا قوم مالي ادعوكم الى النجاة وتدعونني الى النار ،، تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ،، لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الأخرة وأن مردنا الى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار ،، فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري الى الله إن الله بصير بالعباد ) سورة غافر
ضاق القوم ذرعا بهذا الرجل الذي فاجأهم برأيه ، وسفه أحلامهم بهديه ، فناوأوه وسفهوه وهموا به ليقتلوه ، فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب ..
استمر موسى في دعوته ، لا يثنيه وعيد ، ولا يخيفه تهديد ، يدعو فرعون إلى الإيمان بربه ، والرجعى إلى خالق الأرض والسماوات ، وأن يطلق معه بني إسرائيل ، ولكن هذا كان شديدا كل الشدة على ذلك الطاغية الجبار ، فاشتط في غوايته ، وظل في جهالته ، وجمع أشتات الزائغين من قومه الذين ألفوا الذلة ، وارتضوا عيش الهوان والاستعباد ، جمعهم يريد أن يبهرهم بالقوة ، ويثبتهم على الكفر والمذلة ، ونادى في قومه ، قال :
( يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون ،، أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ،، فلولا ألقي عليه اسورة من ذهب أو جاء معه الملئِكة مقرنين ) سورة الزخرف
وهؤلاء هم أذناب شره ، وعمد زيغه وظلمه ، قد أطاعوه ، أنهم كانوا قوما فاسقين .
لم يبق في قوص الصبر منزع ، ولا لحجة المبين موقع ، بعد أن عتا فرعون عتوا كبيرا ، وسد مسالك القول ببهتانه ، وأنكر الشمس في وضح النهار ، بل إنه قد استمر يذيق بني اسرائيل أنواع المذلة وصنوف الهوان ،
فأمر الله تعالى موسى أن يُعلم فرعون وقومه بأن الله لابد مذيقهم جزاء كفرهم وحبسهم بني اسرائيل .
فأخذهم الله بنقص في الأموال والأنفس والثمرات ، فنضب معين النيل ، وغاض ماؤه ، وقل غناؤه ، وقصر عن إرواء أرضهم ، فنقصت ثمراتهم ، وذوي عود خيرهم ، ثم أغرقهم الطوفان من مطر السماء ، فأضر بما بقي من الزرع والضرع ، ثم زحف عليهم جراد أكل الثمار والأزهار ، واستولى عليهم القمل ، فأقض مضاجعهم ، وأقلق رقادهم ، وابتلوا بالضفادع ، فنغضت عيشهم ، واحتشد جمعها في طعامهم وشرابهم وبين ملابسهم ، وسلط عليهم الرعاف من آنافهم ، ثم محق الله أموالهم وأهلكها جزاء خطيئاتهم وكفرهم .
( لما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ) سورة الاعراف .
كشف الله عنهم هذا البلاء ، ليمهد لهم سبيل الخلاص مما نزل بهم ، وليقوي بحكمته الحجة والدليل عليهم ، ولكنهم نكثوا عهد الله فكانوا من الخائنين .
__________________
خروج بني اسرائيل من مصر...
افصح النهار لذي عينين ، فتبين بنو إسرائيل الغي من الرشاد، وانحازوا لرسول الله الكريم ، يلتمسون لديه الرحمة والهداية ، وهم الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وسيموا سوء العذاب ، فعاشوا عيشة البلاء واصطبروا على اللأواء .
وكيف لا تتفتح بصائرهم ولا تنفجر ينابيع إيمانهم ، وقد لمسوا آية الحق ناصعة مشرقة ، فقرت بها عيونهم ، واطمأنت إلى مهادها جنوبهم ، فلم يحفلوا بوعيد فرعون ، ولم يأبهوا لزمجرته وتهديده ، والتمسوا الفرار من أرض مصر ، طلبا للسلامة ، وبعدا عن القوم الظالمين !
سار بهم موسى أول الليل إلى الأرض المقدسة ، وقد سهل الله إليها طريقهم فساروا حثيثا ، يدفعهم الخوف ، ويعصمهم الإيمان ، حتى قطعوا رقعة اليابسة المصرية ، وإذا بهم أمام بحر لجى يقف سدا منيعا دون غايتهم ، وحائلا دون امنيتهم ، فساروهم القلق ، واستولى عليهم الجزع ، وتوزع نفوسهم الروع والفزع .
أليسوا هم المطلوبون لفرعون وجنوده ؟ وهو الذي يجد في السير ويمعن في الطلب حتى ليوشك أن يقترب منهم ، لانهم على زعمه عبيد أبقون واتباع مارقون ، وكان قد جيش جيشه وحشد خيله والمشاة وسار وراء موسى ومن تبعه حتى صار منهم قاب قوسين أو أدنى ؟
هاج بنو إسرائيل ـ وتقطعت نفوسهم هما وحسرة ، أليس الموت قد كاد يدركهم ، وحبائل فرعون قد اقتربت لتقنصهم ؟ هنا سمع صوت يجأر كما تنبعث الهيعة الصاخبة وسط المفازة المترامية ، فيه عتب وفيه لوم وفيه استنجاد ،،،، وفيه يأس ،،،، وكان صاحب الصوت يوشع بن نون ، من قوم موسى ...
قال : يا كليم الله ,, أين تدبيرك ؟ ها قد دهمتنا غوائل القدر ، فالبحر أمامنا والعدو وراءنا ، وليس لنا من الموت محيص ولا مفر .
فقال موسى : لقد أمرت بالبحر ، ولعلي أومر الآن بما اصنع .
فسرت في نفوس القوم سارية من الأمل ، ولكنه لا يلبث أن يمد شعاعه ، حتى تطفئه عواصف اليأس والقنوط ، ويشيع في نفوسهم ثورة يحبسها ما تبقى في قلوبهم من رجاء ، وما يعللهم به نبيهم من فرج ورخاء ، إذن فليستسلموا لقضاء الله ، والله لا بد راحمهم وعاصمهم من فتك الظالمين .....
أوحى الله إلى موسى : أن اضرب بعصاك البحر .... فضربه ،،، فانجابت دياجير الظلام ... وانحسرت طاغيات اليأس ، وإذا اثنا عشر طريقا لأثنى عشر سبطا ، لكل سبط طريق ، وإذا الشمس والريح يهيئهما الله ، فتجف هذه الارض ، وتمهد تلك السبل ، وإذا القوم يسيرون آمنين في رعاية الله الكبير المتعال ، وإذا ربهم يؤمن رسولهم ، إذ يقول :
( فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى ) سورة طه
انساب الأسباط يهرعون إلى بر الأمان والسلام الأمان والسلام ، وقد قام الماء على جانبي كل طريق كالطود العظيم حتى عبروا سالمين ...
استشرف القوم بعيونهم ، فأبصروا فرعون وجنوده يتأهبون ليسلكوا في البحر مسالك بني اسرائيل التي عبروا منها ، حتى يلحقوا بهم ، فينزلوا بهم أشد العذاب ، وعاد القلق والاضطراب ، بعد أن ظللتهم سحابة من الأمن ، وتملكهم الخوف والإشفاق ، خشية أن يمتد إليهم عدوان فرعون ، بعد أن يجوز البحر من حيث جاوزه ...
اتجهت القلوب ، وتطلعت الأنظار نحو موسى يكسف ربه عنهم هذا البلاء المحدق ، الذي يكاد يدهمهم من حيث لا يشعرون ، حينئذ هم موسى ليدعو البحر فيرجع الى حاله ، حتى يحول بينهم وبين فرعون ، وليكون حاجزا يحجز عنهم ذلك البطش الذي يلاحقهم في كل مكان وزمان .....
لم يكد عزم موسى يختلج في فؤاده حتى أوحى الله إليه : أن اترك البحر ساكنا على حاله ، فلا تضرب بعصاك فيعود الى حاله ، لأن الله لا يريد أن يجعل البحر حائلا بينك وبينهم ،، فيرجعوا الى ديارهم سالمين ،،،،،، بل سبقت كلمة الله في هؤلاء ،،،،،، فغرتهم المسالك التي سلكها بنو اسرائيل ومشوا فيها ، فانطلق عليهم الماء فكانوا من المعوقين ....
تلفت فرعون وجنوده ، فإذا سبل البحر ممهدة أمامهم فيها يسيرون ومنها إلى بني اسرائيل يصلون ،،، فانتفخت أوداجهم وأعماهم غرورهم ، وتاهوا في ضلال الصلف والإعجاب ،
فقال فرعون لجنوده : انظروا الى البحر كيف انفلق طوعا لأمري وانصياعا لإرادتي ، حتى أدرك هؤلاء الخارجين !!
وكأنها كانت معجزة لفرعون في نظر اصحابه الضالين فتقووا بقوته واطمأنوا لنصرته ، ثم اندفعوا الى مسالك البحر ، وقد لجت بهم العجلة طلبا لبني اسرائيل ، ولم يكادوا يصلون الى عرضه حتى انطبق عليهم فأغرقهم أجمعين ، فصاروا مثلا للآخرين ....
نسى فرعون علياءه ومجده وأدرك الحقيقة التي طالما خفيت عليه وأبصر فإذا هو عبد كليل الرأي ، حقير الشأن ، لا حول ولا قوة فانجابت عنه تلك السحابة القاتمة المظلمة ، وتسرب إلى قلبه شعاع من الحق المبين ....
وقد بهرت فما تخفى على أحد إلا على أحد لا يعرف القمرا
وفي هذا الوقت العصيب آمن فرعون ... فقال :
( ءامنت أنه لا إله إلا الذي ءامنت به بنوا اسرائيل وانا من المسلمين ) سورة يونس
لم يقبل الله محال هذا الطاغية الجبار الذي أهلك الحرث والنسل ، بل جازاه على شر أعماله وبئس المصير ..
انطبق البحر ، فسمع صوت انطباقه صاخبا شديدا ، فسأل بنو اسرائيل موسى : ما هذه الضوضاء ؟
فقال لهم : إن الله قد أهلك فرعون ومن معه مغرقين فعاودتهم غريزة تأصلت في نفوسهم ، وباطل تمكن من قلوبهم ،
فقالوا لموسى : إن فرعون لا يموت !! ألم ترى كيف كان يلث كذا من الأيام وكذا من الشهور ،، لايحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه بنو الإنسان ؟!
قالوا هذا ، ويغشى على أفئدتهم وهم باطل ، ولكن فليختلقوا القدرة والحول والإمكان والطول لفرعون وليمعنوا في دعاويهم الزائفة الكاسدة ،، فهذه قدرة الله ،،، وذلك حول الله ...
أمر الله فألقى البحر جثة فرعون على ساحله حتى لا يكون فر مواراة البحر إياها سبيل من سبل التقول لفرعون ، فربما قالوا : أنه يعيش في عالم آخر .... وربما افتروا وربما كذبوا ، فليخرس الله السنتهم وليكتم أنفاسهم ، ولينبذ البحر هذا الجسد المحطم وذلك السلطان المهدم .....
نظر بنو اسرائيل دهشين ذاهلين مصرع هؤلاء الجبابرة العاتين ..... إذ أغرق الله فرعون وجنوده ، ونجى فرعون ببدنه ، ليكون آية لمن خلفه آية ناطقة على تلك القدرة المعجزة ، وذلك الإنعام الذي تفضل به رب العالمين ....
__________________
مواعــــــــــــدة موســـــــــى...
استقرت عصا التسيار بموسى ومن معه ، فأقاموا حيث واتاه المقام ، ومن ثم احتاجوا الى منهاج يسيرون عليه ، وشرع يركنون إليه ، فسأل موسى ربه كتابا به يهتدون ، والى حكمه يرجعون فيه من الأمر ما يأتون ، ومن النهي ما يذرون ، حت لا تتردى بهم أيام الزمان ، ولا يخطبوا في أمور المعاش والمعاد خبط عشواء .
أمر الله موسى أن يطهر ، وأن يصوم ثلاثين يوما ، ثم يأتي الى طور سيناء حتى يكلمه ربه ، فيتلقى أمره في كتاب يكون لهم المرجع والمآب .
اختار موسى من قومه سبعين رجلا ثم ذهب لميقات ربه ولكنه تعجل فسبقهم الى الطور ، فوصل بعد ثلاثين ليلة ، وقد تأخر عنه المختارون من قومه ، حينئذ سئل عن الأمر الذي بعثه على الإسراع والعجلة ،
فقال : هم أولاء على أثري ، وعجلت اليك رب لترضى . فأمِرَ أن يتم ميقات ربه أربعين ليلة .
وكان موسى قد ترك قومه واستخلف عليهم أخاه هارون وزيرا ، يقوم على شؤونهم ، ويصلح أمورهم ، ويرعى أحوالهم ، حتى يعود إليهم يحمل الأمانة الغالية ، ويسعد بذلك الشرف الموعود .
سار موسى إلى طور سيناء فكلمه ربه وناجاه ، وقربه وأدناه ، حتى سرت في نفسه روعة وهزة ، أججت في فؤاده نار الشوق ، والهبت أوار الهيام واللهفة ....
فقال : رب أرني أنظر إليك ، ولم لا يختلج في فؤاد موسى خاطر يدفعه إلى أن يطلب رؤية ربه ، وقد نعم بتلقي رسالته ، وسعد بالقرب من رعايته ، ونال ما لم ينله قبله أحد من العالمين ، أليس المأرب شريفا ، والقصد كريما ؟!
وموسى نفسه هو الرسول الذي طالبه قومه ، فقالوا : أرنا الله جهرة ، فلماذا لا يسأل ربه ذلك ليرى بنفسه أمر الله في ذلك المطلب المرغوب وليكون حكم الله حجة قاطعة لهؤلاء الراجين الملحفين .
قال ربه : لن تراني ،،،،،، ولكن ،،،،،،، انظر الى الجبل ، فان استقر مكانه فسوف تراني .
تلفت موسى فإذا الجبل قد دك ، وغار في الأرض وساخ ، فارتاع لهول ذلك الخطب الجلل والأمر العظيم ،
فخر صعيقا فلطف الله به وشمله برحمته فأفاق من صعقته ، وقام يسبح الله الكبير المتعال .....
أخذ موسى الألواح ، وفيها ما يحتاج إليه بنو إسرائيل ، موعظة وتفصيلا لكل شيء ،
فقال : يا رب لقد أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحداً قبلي .
فقال يا موسى : إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ....
وانتظر بنو إسرائيل أن يوافيهم موسى بعد ثلاثين يوما من بدء غيبته ، ولكنه ... على غير علم منه ..... طال غيابه حتى صار اربعين يوما ، فأجالوا الرأي بينهم وقالوا :......
إن موسى أخلفنا وعده ، ونقض عهده ، وتركنا في جهل مقيم وليل بهيم ، وما أجدرنا بمن ينير لنا المسالك ، ويرشدنا الى سواء السبيل !!!
عندئذ تحركت في نفس السامري نزوة الشر والفساد ،، فاغتنمها فرصة ، وقال لهم :
عليكم أن تتخذوا لكم إلها ، فليس موسى براجع إليكم لأنه خرج ينشد إلهكم فضل الطريق ، فأبطأ عليكم وأخلف الميعاد !!!
قال الشطيان قوله هذا بعد أن استشف ما في نفوس القوم من خور وانحلال أليسوا هم الذين مالت نفوسهم إلى الكفر ، وقد مروا على قوم يعكفون على اصنام لهم ،،،،
فقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ؟!!!!
اغتنم السامري هذه الجهالة الجهلاء ،،،وتلك الضلالة العمياء ... وأخذ حليا ثم احتفر حفرة ، وقذفها فيها ، ثم أوقد نارا ، وصنع منها عجلا جسدا له خوار ، فأصبح فتنة بين القوم ، أظهرت منهم الكافر ، وأبانت عمن قوي إيمانه واستيقن ، ومن ضعف إيمانه ونافق ....
فتن بنو إسرائيل بهذا العجل وعبدوه ،،، فتقطعت نفس هارون أسى وحزنا وقال لهم ....
( يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعوني واطيعوا امري ، قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ) سورة طه
فأقام هارون مع البقية الثابتين على وفائهم ، المتمسكين بإيمانهم ، وخشي أن يحارب الخارجين ، حذرا من التحزب ، وخوفا من الفتنة والثورة ....
استشعر موسى من ربه هذا الامر ، إذ قال له :
يا موسى إنا فتنا قومك مع بعدك وأضلهم السامري . فلما أتم ميقات ربه ، وسار نحو قومه ،، وسمع على بعد لغطا وضجيجا ، أدرك سر الأمر ، وحقيقة الحال ، حيث هم حول العجل يرقصون ويربطون ، فتملكه نوبة من الغيظ والثورة ، فألقى ما بيده من الألواح ثم دلف نحو هارون ، وأخذ برأسه يجره إليه قائلا :
ما منعك إذ رايتهم ضلوا ألا تتبع طريقي فيهم ، فترد شاردهم وتحارب مفسدهم ، حتى تنطفئ هذه النار المتأججة بالبغي والكفران ؟!!
فتساقط نفس هارون هما وحسرة وأقبل على أخيه يستلينه ويسترحمه ، ويهدئ حدة نفسه وثورة غضبه ،،،
وقال : يابن أُم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ، فأن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ، فلا تشمت بي الأعداء ، ولا تجعلني مع القوم الظالمين .... لقد خشيت أيها الأخ الكريم إن حاربتهم أن تقول فرقت بين بني اسرائيل ولم ترقب قولي ..... ((( يا الله هي حكمة مقولة سيدنا هارون )))
عند ذلك سكت عن موسى الغضب ،،،، وأخذ يعالج حالهم بحسن الرأي والحزم فالتفت الى منبع الفتنة ، ورأس البدعة ، وداعية الضلالة ، وقال :
ما خطبك ايها السامري ؟
فقال السامري :
( بصرت بما لم يبصروا به ، فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي )) سورة طه
((((اثر الرسول هنا يقصد به اثر فرس سيدنا جبرائيل عندما أتى ليأخذ سيدنا موسى لميعاده مع الله ...كما ذكر في تفسير ابن كثير . مفسرا الاية ..
قال السامري ... رأيت جبرائيل حين جاء لهلاك فرعون فأخذت من أثر فرسه وهي ملء كف باطراف الاصابع فالقيت بها على حلي بني اسرائيل فانبسك عجلا جسدا له خوار حفيف الريح فهو خواره .)))
ثم اقبل موسى على قومه فقال : يا قوم ، ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد ، أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ،،، فأختلفتم موعدي ؟
قالوا : ما أخلفنا موعدك بملكنا ، ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم ، فصورها لنا السامري ، وأخرج لنا عجلا جسدا له خوار ، فأضلنا عن الطريق المستقيم ...
ثم ندموا على سقطتهم ، واستغفروا ربهم ،
فقالوا : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ، ،،،
فقال لهم موسى : إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ..
قالوا : فاي شيء نصنع ؟
فقال لهم : توبوا الى بارئكم ، فسألوه أن يبين لكم طريق التوبة وسبيل المغفرة ...
فقال موسى : عليكم بقتل أنفسكم ، اكسروا حدتها ، واكبتوا شهوتها ، وطهورها من الشر والإثم ، وجردوها من كل مشتهي مرغوب ، وأقصرها عن كل مرجو مطلوب ، حتى يصغر شأن النفس الآثمة ، ويهون خطبها ، ويحقر أمرها ، فروضوا أرواحهم ، وهذبوا نفوسهم ، وأقبلوا على نبيهم ، فتاب الله عليهم إنه هو التواب الرحيم ...
أما السامري الذي أشاع تلك الضلالة المنكرة ، فإن الله عاقبه في دنياه بأن أمر بني أسرائيل إلا يخالطوه ، ولا يقربوه ، فصار وحشيا ، لا يألفُ ولا يُؤلفُ ، ولا يدنوا من الناس ، ولا يمس أحدا منهم ، وان له موعدا لن يخلف يوم القيامة ، يو يساق الى الناس آثما ليعذب بما جنت يداه ، وبئس مصير الظالمين ...
وأما عجله فقد أحرقه موسى عليه السلا